الديمقراطية المهددة- المال والإعلام وخطر الشعبوية على الحكم الرشيد

المؤلف: د. منصف المرزوقي10.19.2025
الديمقراطية المهددة- المال والإعلام وخطر الشعبوية على الحكم الرشيد

ليس أشدّ بؤسًا من حال الحالم الذي نذر حياته للدفاع عن الديمقراطية، ثم يرى، عندما تسنح له الفرصة لتحقيق هذا الحلم، أن الواقع المرير يناقض كل ما آمن به. خلال فترة رئاستي بين عامي 2011 و 2014، شعرت مرارًا وتكرارًا أن القدر يسخر مني، إذ رأيت كيف استغل إعلام الفساد حرية الرأي التي ناضلنا من أجلها، نحن الديمقراطيين السلميين، لعقود طويلة، في محاولة سافرة لتحقير الثوار وتكريس فكرة خبيثة في أذهان الناس، وهي أن الثورة، لا الثورة المضادة، هي أصل كل مصائبهم!

كم بدا لي أن الأقدار تستهزئ بي، وأنا أشاهد رجال أعمال فاسدين يستغلون حرية التنظيم، التي دفعنا من أجلها أثمانًا غالية، لإنشاء شركات سياسية تسمى أحزابًا، والتي حصدت في الانتخابات التشريعية لعام 2014 مقاعد أكثر من تلك التي فازت بها الأحزاب التي كافحت طويلًا من أجل الحرية والعدالة!

لقد سخرت منا الأقدار جميعًا عندما رأينا الانتخابات الحرة والنزيهة تصعد إلى سدة الحكم في عام 2014 بقائد الثورة المضادة، وزير الداخلية الأسبق لبورقيبة، الذي كان شغله الشاغل طوال فترة رئاسته هو توريث ابنه الحكم. والأدهى من ذلك، أن نفس الانتخابات الحرة أوصلت للحكم في عام 2019 الانقلابي الذي أغلق مجلس النواب بالدبابات العسكرية، وألقى بدستور الثورة في غياهب النسيان، واستحوذ على جميع السلطات، وبدأ في ملاحقة وسجن جميع المناضلين الشرفاء الذين فتحوا له ولأمثاله الأبواب التي أغلقها!

ألم تكن كل هذه المآسي نتيجة للجهل بأبسط قواعد الصراع ضد الاستبداد، الذي لم يتمكن من هزيمتنا إلا بالأسلحة التي دفعنا ثمنًا باهظًا لحيازتها، ثم قدمناها له على طبق من ذهب؟

ولكن إلى أي مدى كنت مصيبًا في إطلاق مثل هذا الحكم القاسي على أنفسنا؟

في صيف عام 2022، دعتني جامعة هارفارد لإلقاء محاضرات حول موضوع الربيع العربي. كانت هذه الدعوة فرصة سانحة للقاء، كما تقتضي التقاليد الجامعية العريقة، مع العديد من الأساتذة والباحثين المرموقين على موائد الإفطار والغداء. كانت هذه اللقاءات، التي كنت أطلبها بصفتي باحثًا في العلوم السياسية، فرصًا لا تقدر بثمن، تختزل على المرء قراءة عشرات الكتب، فالشخص الذي تجلس معه لساعة واحدة يلخص لك خلاصة أبحاثه التي استغرقت عمرًا بأكمله.

من خلال هذه اللقاءات، أدركت أنني ربما كنت قاسيًا على نفسي وعلى حركة "النهضة".

الخلاصة التي توصلت إليها من خلال التحليلات والنقاشات مع هؤلاء العلماء هي أن ما حدث في تونس ليس إلا حالة كاريكاتورية لوضع مزمن تعاني منه الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وهو وضع قد يؤدي إلى أفولها، عاجلًا أم آجلًا، حتى في أقدم معاقلها. أي أن آليات الديمقراطية، وعلى رأسها الانتخابات، أصبحت أخطر الأدوات لتدمير الديمقراطية نفسها.

لكل من سيتتهمني بالتشكيك في هذا الركن المقدس للديمقراطية بسبب فشلي في الانتخابات الرئاسية، أحيله إلى كتابي "عن أي ديمقراطية تتحدثون؟" الصادر في عام 2004.

ولمن سيسأل لماذا لم أتخذ الإجراءات اللازمة عندما كنت في السلطة، أقول إن إصلاح سفينة معطوبة يتم في الميناء في وقت السلم، وليس في عرض المحيط أثناء العاصفة، والربان محاصر بأصدقاء يعتبرونه منافسًا، وبأعداء يعتبرونه خطرًا داهمًا، والاتفاق الوحيد بينهم هو التخلص منه لعل المحيط يريحهم جميعًا من شره.

بالعودة إلى ما كتبته في عام 2004 عن خطر الانتخابات المباشرة على الديمقراطية، أقول إنني كنت متعلقًا بوهم إمكانية إيجاد حلول تقنية لتدارك نواقصها، مثل: مراقبة تمويل الأحزاب والإعلام، أو رفع العتبة الانتخابية في انتخابات مجلس النواب للحد من الفسيفسائية الحزبية التي حولت البرلمان التونسي إلى ساحة معارك مضحكة، تنفس التونسيون الصعداء بانتهاءها مع الانقلاب المشؤوم.

لكن قناعتي اليوم هي أن الثقب اتسع على الراتق، وأن الأمر بات أبعد من مجرد إصلاحات جزئية.

مشكلة الديمقراطية.. تقنية أم بنيوية؟

من يتوهم إمكانية السيطرة على المال الفاسد والإعلام المضلل وتقنيات الإشهار (الدعاية) المعتمدة بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي، يخدع نفسه. أكثر من أي وقت مضى في تاريخ المشروع الديمقراطي، لم تعد "إرادة الشعب" هي التي تحدد نتائج الانتخابات، بل إرادة المال والإعلام والإشهار، وهذا الأمر يزداد سوءًا نتيجة لتفاقم فاعلية أدوات التضليل والتلاعب هذه. لذلك أصبحنا نرى في سدة الحكم شعبويين ومجانين ومهرجين ومجرمين في أمريكا والأرجنتين والفلبين والهند وتونس، وعلينا أن نترقب نتائج الانتخابات في أوروبا في العقد القادم.

صحيح أن كل المعارك لا تُخسر بالضرورة، والدليل على ذلك هو انتصار لولا في البرازيل على شعبوي تافه، ولكن يجب ألا نغتر بهذا الانتصار؛ فالقاعدة تبقى هي القاعدة، والاستثناء لا يلغيها بل يؤكدها.

الأخطر من هذه الظاهرة هو ما وراءها. ماذا لو كان سقوط الانتخابات في قبضة المال والإعلام (وغدًا الذكاء الاصطناعي) ليس مجرد قضية تقنية يمكن معالجتها بحزمة من القوانين القمعية أو التعديلية، وإنما قضية رؤى فكرية عفا عليها الزمن وخيارات أثبتت التجربة حدودها؟

حلل ما وراء هذه الانتخابات، وستجد أنها تحيل إلى ثلاثة مقدسات علمانية لم يعد مسموحًا لأحد بالتشكيك فيها، تمامًا كما هو الحال مع المقدسات الدينية: الفرد والشعب وإرادة هذا الشعب التي يفترض أن الانتخابات تعبر عنها.

المشكلة هي أن الفرد الذي تقدسه الديانة الفردانية، أي الشخص الحر القادر على حسن التصرف وحسن الاختيار في الانتخابات أو في اقتناء أفضل وأرخص سلعة في السوق، والذي يجب أن تخدمه السياسة والاقتصاد، هو كائن خيالي لا وجود له إلا في أذهان من خلقوه.

ليس من اختصاصي تتبع جذور هذه العقيدة تاريخيًا وثقافيًا واجتماعيًا، ولكن لدي فرضية مفادها أن من وضعوا هذه العقيدة من فلاسفة وشعراء ومنظرين كانوا يعانون من عقد نقص مستحكمة لعدم الاعتراف بقيمتهم من قبل مجتمع طبقي، فانحازوا للتطرف، جاعلين من الفرد، أي في الواقع من ذواتهم كرمز ونموذج لكل فرد، مقياسًا لكل شيء، وانخرطت العديد من الذوات المجروحة في هذا التيار لنفس الدوافع النفسية.

البحث عن الفاعل الحقيقي

هنا يطرح السؤال نفسه: من هو إذن الفاعل الحقيقي في المجالين الاقتصادي والسياسي؟

بشكل موضوعي، نحن أمام طيف واسع من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية التي تتجسد في مواقف وتصرفات لأفراد متباينين. للتصنيف، وهل شيء أحب إلينا من التصنيف، هؤلاء الأفراد هم ملائكة أفسدتهم الحضارة، كما قال روسو، أو ذئاب أفسدوا الحضارة، كما قال هوبز. قسمهم عالم الاجتماع الإيطالي كارلو تشيبولا إلى الأخيار الذين تنتج أفعالهم الخير لهم ولغيرهم، والأشرار الذين تنتج أفعالهم الخير لهم والأذى لغيرهم، والأغبياء الذين تنتج أفعالهم الخير لغيرهم والأذى لأنفسهم، والحمقى الذين تنتج أفعالهم الأذى لأنفسهم ولغيرهم.

أما أنا شخصيًا، فأقسمهم إلى المفترس مرتكب كل المظالم، والفريسة ضحية هذه المظالم، والفارس الذي يهب لنصرة المظلوم.

أيا كان التصنيف، يوجد دائمًا أفراد يتجاور فيهم الجهل والعلم، والخير والشر، والذكاء والغباء، والقدرة على حسن اختيار ما يصلحهم والآخرين، والقدرة على ارتكاب كل الأخطاء والخطايا عمدًا أو عن غير قصد.

إنها نفس الإشكالية، ولكن على نطاق أوسع، عندما نقفز إلى مستوى الشعب.

نحن هنا أيضًا أمام مفهوم لا شك أنه نبع في عقول وقلوب مفكرين انتموا إما إلى أقلية طبقية أو إثنية تصارع ضد التهميش أو التحقير أو الاحتلال الخارجي.

من هذه المنطلقات النفسية التي ستبقى غامضة، نشأ المفهوم المثالي لكتلة بشرية متجانسة متحدة: الحق والخير والأمل وضمان مشروع حياتي مشترك. المشكلة هي أن هذا الشعب موجود فقط إبان اللحظة التاريخية التي تسعى فيها مجموعة بشرية لإيجاد دولة تحميها وتمثلها وتخدمها. خير مثال على ذلك هو الشعب الفلسطيني الذي تعركه وتشكل مكوناته وتوحدها معاركه المستمرة منذ سبعين عامًا لبناء دولته، ذلك لأنه لا وجود لشعب بدون دولة، مثلما لا وجود لدولة بدون شعب.

ما عدا هذه الحالة العابرة، أي عند تشكل الدولة المستقلة، الموجود في الواقع مجتمع يتوارث اللامساواة جيلًا بعد جيل وينخرط في صراع لا يتوقف، تارة سلميًا وطورًا دمويًا، حول تقاسم السلطة والثروة والاعتبار.

هكذا ترى هذا الشعب الواحد ظاهريًا مقسمًا إلى شعب من الرعايا يعيش بصمت وخنوع تحت الاحتلال الداخلي لطبقة عسكرية أو طائفية أو أيديولوجية استولت على جل السلطة والثروة والاعتبار، وشعب من المواطنين في صراع لا يتوقف لإعادة توزيع أكثر عدلًا.

ويتحدثونك عن الشعب كما لو كان نسيجًا مؤلفًا من خلايا لها نفس الخصائص ونفس المصالح ونفس التوجهات.

الأخطر من هذا الوهم هو أن الشعب المتخيل مؤلف من أفراد خيرين لا يريدون إلا الخير للآخرين ولأنفسهم، وأنك إذا تركت لهم حرية الخيار فإنهم سيختارون الأصلح والأكثر التزامًا بالقيم والمصلحة الجماعية.

انظر لما يحدث اليوم في أمريكا. الأغلبية الساحقة التي صوتت وستصوت لترامب تعرف أنه زير نساء ومتحيل ضريبي وكاذب، لكنها لا تهتم بكل هذه الأوصاف؛ لأنها ترى فيه الرجل الناجح المثير للإعجاب، ولا يهمها وسائل نجاحه. إذا تذكرنا أن الناس يصوتون لمن يشبههم ولمن يرون أنفسهم فيه، فمعنى هذا أن هناك أغلبية من الناخبين الأمريكيين الذين يشبهون ترامب، وأن آخر ما يهمهم القيم العليا التي تدعي النظرية الديمقراطية أنهم يمثلونها.

عن هذا الوهم يتولد الوهم الأخير؛ أي أن لهذا الشعب الخيالي الكامل الأوصاف، المؤلف من أفراد خيرين واعين مسؤولين، إرادة صالحة تعبر عنها الانتخابات.

إنه ضرب من التفكير السحري الادعاء بأن هذه الإرادة هي قرار خمسين بالمئة زائد صوت واحد من المنتخبين الذين هم جزء من القوائم الانتخابية التي هي بدورها جزء ممن يحق لهم قانونًا التصويت، والذين هم أنفسهم جزء من مجموع السكان بمن فيهم الأطفال والمرضى والشيوخ والأجانب.

انتبه أيضًا إلى التناقض الجذري بين أجزاء المنظومة الفكرية؛ فالفردانية النظرية تعطي لكل الأفراد القيمة والحقوق ذاتها، لكن الفردانية العملية تزري عبر الانتخابات بقيمة الذين فقدوا الأغلبية ولو بنسبة 49.9%. فهم سياسيًا والعدم سيّان، وإرادتهم لا تساوي قيمة قلامة ظفر.

والأهم من هذا، افترض أن كل الشعب الإسرائيلي قرر بكل حرية في انتخابات لم يلعب فيها المال الفاسد والإعلام الموجه أي دور أنه لن يقبل أبدًا بقيام دولة فلسطينية، فهل هذه الإرادة هي المبتدأ والمنتهى في هذه القضية؟ طبعًا لا، لأن هناك إرادة أقوى من إرادة الشعب الإسرائيلي، ألا وهي إرادة شعب يناضل من أجل حقه الأصيل في الوجود، وإرادة القانون الدولي المستند إلى مبادئ وقيم سامية، منها حق كل الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.

نحو اجتهاد جديد

والآن تفحص هذه "المقدسات" الثلاثة التي ترتكز عليها آليات الديمقراطية، وعلى رأسها الانتخابات.

إنها كلها خيارات نسبية؛ لأنها لا تعكس إلا خيارات الثقافة الغربية في مرحلة محددة من مراحل تاريخها الزاخر.

وهي لا تتقاطع بالضرورة مع خيارات ثقافية أخرى، ومن بينها ثقافتنا العربية الإسلامية التي لا تقدس الفرد، والتي ترى في الشريعة الغراء، لا في إرادة عامة الناس، أساسًا لشرعية السلطة. إضافة إلى ذلك، فإن العدل بالنسبة لثقافتنا هو سيد القيم، وليس الحرية كما هو الحال في الخيار الغربي. اسمحوا لي هنا بالتأكيد على أنني لا أنخرط بهذا الرأي في النقاش العقيم حول نقد المركزية الغربية وإدانة "نفاق" قيمها، إلى آخر ما يتفوه به القوميون والمتدينون المتطرفون.

ما أود قوله هو أن البحث عن حوكمة رشيدة، الذي انطلق منذ آلاف السنين في أشكال بدائية، منها الحكم المجالسي للقبيلة أو القرية، اكتسب عبر الديمقراطية الغربية شكله الأكثر تقدمًا وتعقيدًا. ولكن هذا الشكل لا يزال مفتوحًا على الكثير من التغييرات؛ لأنه يواجه تحديات غير مسبوقة كشفت عن نواقصه وعيوبه التي لا بد من تداركها حتى يتواصل هذا البحث المضني.

لماذا لا يكون لنا نحن العرب دور ريادي في دفع المشروع الديمقراطي إلى آفاق أرحب مما أوصله إليه النموذج الغربي، وقد أصبحت التجربة الديمقراطية ملكًا للعالم أجمع، وذلك في إطار تفاعل الحضارات وضرورة الأخذ بامتنان من كل مورد والإضافة بسخاء دون منة؟

السؤال المطروح في هذه الحالة هو: على أي خيارات فكرية وقيمية أخرى عابرة للثقافات يمكن أن نبني آليات جديدة نعيد بها للمشروع الديمقراطي حيويته المتلاشية وندفع به قدمًا في طريق سيبقى دومًا طريق الساعي نحو الكمال؟

 

الحلقة المقبلة: الشرعية البديلة

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة